قام علماء السنّة، بتوجيه المدح والإطراء، وإسباغ آيات الثناء والتبجيل على صحيحي البخاري ومسلم، حتى بلغ بهم حد الغلّو والإفراط بحّقهما. وكان البخاري أوفر نصيبا من مسلم، في استيفاء نصيبه من ذلك.
وحتى استبد بهم الأمر ـ من فرط الغلّو ـ أن يبعثوا بسلام النبي (صلى الله عليه وآله) إليهما، ويرون في حقهما من غريب الرؤيا وعجيبها، وينسبون إليهما وكتابيهما، الكرامات الجليلة، وإسباغ طابع التصحيح، والإمضاء من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لكتابيهما.
والواقع، أن كل ما ذكر من هذه النسب والكرامات، والإطراء البليغ بشأنهما، لا يتّفق لا مع متن الصحيحين، ولا مع الطريقة التي اتّبعاها في تصنيفهما، كما سيتبين ذلك في هذه الدراسة بشكل واضح.
نبدأ أولا بعرض نماذج من هذا الإطراء، والثناء على الكتابين، ثم ننتهي إلى دراستهما:
يقول كاتب شلبي:
والكتب المصنّفة في علم الحديث أكثر من أن تحصى، إلا أن السلف والخلف قد أطبقوا على أن أصح الكتب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى، صحيح البخاري، ثم صحيح مسلم)(6).
ويقول محمد بن يوسف الشافعي:
(إن أوّل من صنّف في الصحيح، البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، ومسلم مع أنه أخذ عن البخاري واستفاد منه، فإنّه يشارك البخاري في كثير من شيوخه، وكتاباهما أصحّ الكتب بعد كتاب الله العزيز)(7).
وقال الذهبي:
(وأما جامع البخاري الصحيح، فأجل كتب الإسلام، وأفضلهما بعد كتاب الله تعالى)(. وقال الحافظ أبو علي النيسابوري:
(ما تحت أديم السماء، أصح من كتاب مسلم)(9).
ويقول النووي في (التقريب):
(أول مصنّف في الصحيح المجرّد، صحيح البخاري، ثم صحيح مسلم. وهما أصح الكتب بعد القرآن. والبخاري أصحّهما، وأكثرهما فوائد. وقيل: مسلم أصح، والصواب الأول(10).
ويقول أيضا في مقدمة شرح صحيح مسلم:
(اتفق العلماء ـ رحمهم الله ـ على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان، البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول)(11).
وقال القسطلاني:
(وقد اتفقت الأمة على تلقي الصحيحين بالقبول، واختلف في أيّهما أرجح، صرّح الجمهور بتقديم صحيح البخاري، ولم يوجد عن أحد التصريح بنقضه)(12).
ويقول ابن حجر الهيثمي:
(روى الشيخان، البخاري، ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصحّ الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتدّ به....)(13).
وقال إمام الحرمين:
(لو حلف إنسان بطلاق امرأته أنّ كلّ ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي (صلى الله عليه وآله)، لما ألزمته الطلاق ولا أحنثته، لإجماع علماء المسلمين على صحّتهما)(14).
ولم يكتفوا بما نقلناه عنهم حتى الآن في التمجيد بالكتابين، وامتداحهما، فأضافوا إلى ذلك، ما أملى عليهم غلوّهم وإفراطهم على هذا الصعيد.