الموضوع : الحلال والحرام
.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العاملين ، يا رب خلقت فسويت ، وقدرت ، وقضيت ، وأمت وأحييت ، وأمرضت وشفيت ، وعافيت وابتليت ، وأغنيت ، وأقنيت ، وأضحكت وأبكيت ، المرجع والمآل إليك ، ونحن بك وإليك .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، يقول في الحديث القدسي : ((لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنك ، وقفوا على صعيد واحد وسألني كل واحد منكم مسألته ، وأعطيت كل سائل مسألته ، ما نقص ذلك في ملكي ، إن هي إلا أعمالكم أحصيها عليكم ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) .
[رواه مسلم برقم 4674في البر والصلة ، ورواه الترمذي 2419 في صفة القيامة ، ورواه أحمد في مسند الأنصار برقم 20405عن أبي ذر]
وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله ، قال : ((إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها ، وتستوعب رزقها فاتقوا الله عباد الله ، وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله ، فإن الله تعالى ، لا ينال ما عنده بمعصيته)) .
[حديث صحيح بشواهده ، ابن ماجه 2/2144، وأبو نعيم في الحلية ، والحاكم وابن حبان ]
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين .
عباد الله ، أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله ، وأحثكم على طاعته ، وأستفتح بالذي هو خير .
موضوع الخطبة اليوم ؛ الحلال والحرام في الإسلام ، فيها مقدمة حول الحلال والحرام ، في أعمال الجوارح ، وفي أعمال القلوب ، وفيها إحدى عشرة قاعدة ذهبية أصولية ، في الحلال والحرام ، وقصة تتصل بالموضوع ، بشكل أبو بآخر ، وموضوعٌ علميٌ ، وخاتمة .
موضوع الحلال والحرام ، هو قيام الإسلام ودليل الإيمان ، وميزان الصدق عند الواحد الديان ، فلا إيمان بلا عمل ، ولا عمل إلا على مقتضى الأمر والنهي ، ولا التزام بأمر آمر ولا نهي ناهٍ إلا عن حب ، والحب دون اتباع كذب ونفاق .
أيها الإخوة الكرام ، من هنا كانت خطورة موضوع الحلال والحرام في الإسلام ، الذي هو شريعة خاتمة ، لبناء حضارة أمة ، هي خير أمةٍ أخرجت للناس ، لكانت جميع الرسالات السابقة تدريباً للبشيرة على تقبل تلك الشريعة الخاتمة ، وتمهيداً لاكتمال الوعي في تلك الأمة المختارة ، فما من أمة عدلت عن تشريع الله إلا أخذت بالدمار والهلاك ، وما من فرد ، أهمل الأمر والنهي ، إلا اختل قوامه ، واضطرب حاله ، قال تعالى :
[سورة المائدة]
الشريعة رحمة كلها ، عدل كلها ، مصلحة كلها ، حكمة كلها ، إنها تعليمات الصانع الخبير ،
[سورة فاطر]
لقد أراد الإسلام بناء شخصية المسلم ، متميزةً عن الشخصيات الأخرى ، من خلال الحلال والحرام ، وقد اتجه الإسلام بأهله إلى بناء مجتمع الجسد الواحد ، والأخوة الإسلامية الصادقة التي تنتهي إلى الأخوة الإنسانية ، على هدي الحلال والحرام ، لقد احترم الإسلام الإنسان ، وأعلى قدره حينما نظر إلى الاقتصاد من خلال الإنسان كرامةً وكفايةً وأمناً ، لا من خلال قهره واستغلاله ، فكان الحلال والحرام صوناً لكرامة الإنسان ، شرائع الإسلام أيها الإخوة ، صالحةٌ لاستيعاب كل المعاملات والقضايا العصرية ، لتضعها في مكانها من الحلال والحرام.
الحلال والحرام يتصل بأعمال القلوب كما يتصل بأعمال الجوارح والصحابة الكرام على جلالة قدرهم ، وعمق إيمانهم ، وقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أحرص الناس على رعاية أعمال القلوب ، حرصهم على رعاية أعمال الجوارح ، إن الإنسان أيها الإخوة لا يتحرك في أعماله سواءً أكانت فعلاً أو تركاً ، حركةً آليةً بلا دافع قلبي ، يدفعه إلى العمل ، وإلا كان جماداً لا روح فيه ، هذا الدافع القلبي هو الإرادة والنية ، وقد يدخله كثير من ألوان الخداع النفسي ، حتى يتحول عمل الطاعة إلى إثم ، ويتحول ترك الحرام إلى حرام .
إن أعمال القلوب دقيقة المأخذ ، تتقارب فيها حدود الحلال والحرام تقارباً لا يمكن التمييز بينها ، إلا بعد تأملٍ دقيق ، على هدى من علم شامل وفقه عميق ، كالنفاق المحرم والمباهاة المباحة ، كيف نميز بينهما؟ .. وكالخوف من الماضي واليأس من رحمته .. كيف نفرق بينهما ؟ .. وكرجاء رحمته ، والغِرة به ، كإضمار ما يجب ستره ، بنية الدعوة إلى العمل بالقدوة ، ونية الإعجاب بالعمل والرغبة في ثناء الناس كيف نفرق بينهما ؟ .. وكالعجب والكبر ، والمهابة والوقار .. إن أعمال القلوب دقيقة جداً .
إن الأعمال تحتاج إلى شروط صحةٍ من زاوية الأحكام الفقهية التي تتعلق بالجوارح ، وهذه الشروط موجودة في كتب الفقه ، وتحتاج أعمال الإنسان إلى شروط صحةٍ أخرى من زاوية قبوله عند الله ، وهذه تتعلق بمعرفة النفس وأحواله مع ربها .
فالعمل مطلقاً أيها الإخوة ، والعمل الصالح بخاصة لا يُقبل عند الله إلا إذا كان خالصاً وصواباً ؛ خالصاً ما ابتُغي به وجه الله ، وهذا من عمل القلب ، وصواباً ما وافق السنة ، وهذا من عمل الجوارح ، وكل منهما شرط لازم غير كاف .
القاعدة الأولى : الأصل في الأشياء الإباحة .
إن أول مبدأ قرره الإسلام ، أن الأصل فيما خلق الله من أشياء ومنافع هو الحلُّ والإباحة ، ولا حرام إلا ما ورد فيه نص صحيح وصريح بتحريمه ، من الله في كتابه ، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته ، فإذا لم يكن النص صحيحاً ، أو لم يكن صريحاً في الدلالة على الحرمة ، بقي الأمر على أصل الإباحة ، قال تعالى :
[سورة الجاثية ]
وما كان الله سبحانه وتعالى ، ليخلق هذه الأشياء ويسخرها للإنسان ، ويمنَّ عليه بها ، ثم يحرمه منها بتحريمها عليه ، كيف وقد خلقها ، وسخرها له ، وأنعم بها عليه ، والذي حرمه جل جلاله ، جزئيات منها بسبب وحكمة بالغة ، ومن هنا ضاقت دائرة المحرَّمات في شريعة الإسلام ضيقاً شديداً ، واتسعت دائرة الحلال اتساعاً بالغاً .
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً .. وتلا قوله تعالى :
[سورة مريم]
إن أصل الإباحة تشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة ، ففي الأشياء والأفعال ، الأصل أنها مباحة ، ولا يُحرم شيئاً منها بنص ، وفي العبادات الأصل هو الحظر ، ولا تُشَّرع عبادة إلا بنصٍ .
القاعدة الثانية : التحليل والتحريم ؛ من حق الله تعالى وحده .
التحليل والتحريم ، من حق الله تعالى وحده ، وليس من حق أحدٍ من خلقه ، أياً كانت درجته في دين الله ، أو دنيا الناس ، فمن فعل ذلك من بني البشر ، فقد تجاوز حده ، واعتدى على حق الربوبية في التشريع للخلق ، ومن رضي بعمله هذا واتبعه فقد جعله شريكاً لله ، وعُدَّ اتباعه هذا شركاً ، قال تعالى :
[سورة الشورى]
[سورة النحل آية 116]
وكان السلف الصالح ، لا يصف شيئاً بأنه حرام ، ما لم يكن في كتاب الله ، أو في سنة رسوله بيناً بلا تفسير ، وكانوا لا يطلقون الحرام إلا على ما عُلم تحريمه بالضرورة قطعاً يقيناً ، وكان أحمد ابن حنبل يقول حين يُسأل : " أكرهه ، لا يُعجبني ، لا أحبه ، لا أستحسنه " .
القاعدة الثالثة : تحليل الحرام ، وتحريم الحلال من أكبر الكبائر .
تحليل الحرام ، وتحريم الحلال يقترن بالشرك ، يقول عليه الصلاة والسلام ، فيما يرويه عن ربه ، إني خلقت عبادي حُنفاء ، وإنهم أتتهم الشياطين ، فاجتالتهم عن دينهم ، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرَتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ، وقد حارب النبي صلى الله عليه وسلم نزعة التنطع والتشدد ، من دون موجب ، وذمها ، وأخبر بهلاك أصحابها ، فقال عليه الصلاة والسلام : ((ألا هلك المتنطعون ، ألا هلك المتنطعون ، ألا هلك المتنطعون)) .
[رواه أبو داود برقم3992 ، وأحمد 3473]
والتحريم أيها الإخوة يستطيعه كل إنسان ، حتى الجاهل ، لكن العلماء المتمكنين العاملين بعلمهم ، المخلصين في علمهم ، هم الذين يبينون للناس ما هو حلال وما هو حرام ، بالدليل والتعليل ، فالتبليغ مهمة الأنبياء والرسل ، والتبيين مهمة العلماء من بعدهم .
القاعدة الرابعة : الحلال طيب ، والحرام خبيث .
من حق الله تعالى ، لكونه خالقاً ومربياً ومسيراً ، ومنعماً على خلقه بنعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الهدى والرشاد ، من حقه أن يحل لهم ، وأن يحرم عليهم ما يشاء ، كما له أن يتعبدهم بالتكاليف والشعائر بما يشاء ، فهو حق ربوبيته لهم ، ومقتضى عبوديتهم له ، ولكنه تعالى ، رحمة منه بعباده ، جعل التحليل والتحريم ، لأسباب معقولة راجعةٍ لمصلحة البشر أنفسهم ، فلم يحل سبحانه إلا طيباً ، ولم يحرم إلا خبيثاً ، قال تعالى :
[سورة الأعراف]
والطيبات هي الأشياء التي تستطيبها النفوس المعتدلة المتوازنة ، ويستحسنها مجموع الناس ذوي الفطر السليمة ، استحساناً غير ناشئ عن أثر العادة ، فالعلاقة بين الحلال ونتائجه علاقة علمية ، أي علاقة سبب بنتيجة ، والعلاقة بين الحرام ونتائجه علاقة عليمة أي علاقة سبب بنتيجة .
القاعدة الخامسة : في الحلال ما يُغني عن الحرام .
من محاسن الشريعة الإسلامية ، أنها لم تُحرم شيئاً إلا عوضت خيراً منه ، مما يسد مسده ، ويغني عنه ، فالله تعالى ، لم يضيق على عباده من جانب إلا وسَّع عليهم من جانب آخر ، من جنسه ، فإنه سبحانه وتعالى ، لا يُريد بعباده عنتاً ، ولا إرهاقاً ، بل يُريد بهم اليُسرَ والخير والهداية والرحمة ، قال أحد العلماء : حرم الله عباده ، الاستقسام بالأزلام ، وعوضهم عنه دعاء الاستخارة ، حرم عليهم الربا وعوضهم التجارة الرابحة ، حرم عليهم القمار ، وأعاضهم عنه المسابقة في الدين حرم عليهم الحرير ، وأعاضهم عنه الملابس الفاخرة ، حرم عليهم الزنا وأعاضهم عنه الزواج الحلال ، حرم عليهم شرب المسكرات وأعاضهم عنها بالأشربة اللذيذة ، حرم عليهم الخبائث من المطعومات ، وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات .
ليس في الدين حرمان كما يتوهم الجهلة ، فكل شهوة أودعها الله في الإنسان جعل لها قناةً نظيفةً تتحرك من خلالها ، وكل حاجة ، ألجأ الله إليها عباده ، جعل لهم ، أكثر من سبب لتحقيقها ، فالحلال يُغني عن الحرام ، أيما غناء .
القاعدة السادسة : ما أدى إلى حرام فهو حرام .
ومن المبادئ التي قررها الإسلام ، أنه إذا حرَّم شيئاً حرم ما يُفضي إليه من وسائل ، وسد الذرائع الموصلة إليه ، فإذا حرَّم الزنا ، حرم كل مقدماته ودواعيه ، من تبرج جاهلي ، وخلوة آثمة ، واختلاط عابث وصور فاضحة ، وأدب مكشوف ، وغناء فاحش فما أدى إلى حرام فهو حرام .
وقرر أيضاً أن إثم الحرام لا يقتصر على فاعله المباشر وحده ، بل تتسع الدائرة لتشمل كل من شارك فيه بجهد مادي أو أدبي ، كل يناله من الإثم على قدر مشاركته ، ففي الخمر لعن شاربها ، وعاصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها .
القاعدة السابعة : التحايل على الحرام حرام .
وكما حرَّم الإسلام ، كل ما يفضي إلى المحرمات من وسائل ظاهرة حرم أيضاً التحايل على ارتكابها بالوسائل الخفية ، والحيل الشيطانية ، ومن الحيل الآثمة تسمية الشيء الحرام بغير اسمه ، وتغيير صورته مع بقاء حقيقته ، ولا ريب أنه لا عبرةَ بتغيير الاسم إذا بقي المسمى ، ولا بتغيير الصورة إذا بقيت الحقيقة ، فمن باع سلعةً ديناً لستة أشهر بمائة ، ثم اشتراها نقداً بثمانين ، وادعى أن هذا بيع وشراء ، نجيبه : بأنه لا عبرة لصورة البيع والشراء ، إنه أقرض ثمانين ليستردها مائة وهذا هو الربا بعينه .
القاعدة الثامنة : النية الحسنة ، لا تبرر الحرام .
الإسلام يقدر الباعث الكريم ، والقصد الشريف ، والنية الطيبة ، في تشريعاته ، وتوجيهاته كلها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ((إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى)) .
[رواه البخاري برقم 1 ، وأبو داود برق1882، وابن ماجه برقم 4217]
وبالنية الطيبة ، تصبح المباحات والعادات ، طاعات وعبادات ، فمن تناول غذاءه بنية حفظ الحياة ، وتقوية الجسد على طاعة الله ، وأداء واجبه نحو ربه وأمته ، كان طعامه وشرابه عبادة وقربة ، قال عليه الصلاة والسلام ، فيما رواه الطبراني : ((من طلب الدنيا حلالاً ، تعطفاً عن المسألة ، وسعياً على عياله ، وتعطفاً على جاره ، لقي ربه ووجهه كالقمر ليلة البدر)) .
وهكذا كل عمل مباح يقوم به المؤمن يدخل فيه عنصر النية ، فتحيله إلى عبادة .
أما الحرام فشيء آخر .. الحرام هو حرام ، مهما حسنت نية فاعله ، وشرف قصده ، ومهما كان هدفه نبيلاً ، لا يرضى الإسلام أبداً أن يُتخذ الحرام وسيلةً إلى غاية محمودة ، لأن الإسلام يحرص على شرف الغاية ، وطهر الوسيلة معاً ، ولا تقر شريعة الإسلام بحال مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ، أو مبدأ الوصول إلى الحق بالخوض في كثير من الباطل ، بل توجب شريعة الإسلام ، والوصول إلى الحق عن طريق الحق وحده فمن جمع مالاً من ربا أو سحت ، أو لهوٍ حرام ، ليبني مسجداً ، أو يُقيم مشروعاً خيرياً ، لم يشفع له نبل قصده ، لأن الحرام في الإسلام لا تؤثر فيه المقاصد والنيات ، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً .
القاعدة التاسعة : اتقاء الشبهات أولى .
من رحمة الله تعالى بالناس ، أنه لم يدهم في ظلمة من أمر الحلال والحرام ، لقد بيَّن الحلال ، وفصل الحرام ، قال تعالى :
[سورة الأنعام]
فأما الحلال البين فلا حرج في فعله ، وأما الحرام البين فلا رخصة في اتباعه ، وهناك منطقة بين الحلال البين والحرام البين ، هي منطقة الشبهات التي يلتبس بها أمر الحل بالحرمة على بعض الناس ، لا على كلهم ، إما لاشتباهٍ في الأدلة عليه ، أو لاشتباه في تطبيق النص على الواقعة ، وقد جعل الإسلام من الورع أن يتجنب المسلم هذه الشبهات حتى لا يجره الوقوع فيها إلى مواقعة الحرام الصرف ، قال عليه الصلاة والسلام : ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن ، وبينهما أمور مشتبهات لا يدري كثير من الناس ، أمن الحلال هي أم من الحرام ، فمن تركها استبراءً لدينه وعرضه ، فقد سلم ، ومن واقع شيئاً منها يوشك أن يُواقع الحرام)) .
[رواه البخاري برقم 50 ، ومسلم برقم 2996 ، والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي ]
القاعدة العاشرة : الحرام حرام على الجميع .
الحرام في شريعة الإسلام يتسم بالشمول والاطراد ، فليس هناك شيء حرام على الأعجمي حلال على العربي ، وليس هناك شيء محظور على الملون مباح للأبيض ، وليس هناك جواز أو ترخيص ممنوح لفئة من الناس ، تقترف باسمه ما طوع لها الهوى ، بل ليس للمسلم خصوصية تجعل الحرام على غيره حلالاً له ، كلا إن الله رب الجميع ، والشرع سيد الجميع ، فما أحل الله بشريعته فهو حلال للناس كافة ، وما حرَّم فهو حرام على الجميع كافة إلى يوم القيامة .
السرقة مثلاً حرام ، سواء أكان السارق ينتمي إلى المسلمين أو لا ينتمي ، وسواء أكان المسروق ينتمي إلى المسلمين ، أو لا ينتمي ، والجزاء لازم للسارق أياً كان نسبه أو مركزه ، وهذا ما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأعلنه حينما قال : ((إنما أهلك الذين من قبلك ، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله ؛ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) .
[رواه مسلم في الحدود برقم 3197 ، والترمذي برقم 1350 ، وأحمد برقم 7797]
القاعدة الحادية عشرة حول ضابط الكسب الحلال ، هي قاعدة مهمة جداً من القاعدة العامة في الكسب ، أن الإسلام لا يُبيح لأبنائه أن يكتسبوا المال كيفما شاؤوا وبأي طرق أرادوا ، بل هو يفرِّق بين الطرق المشروعة ، باكتساب المعاش ، نظراً إلى المصلحة الجماعية ، وهذا التفريق ، يقوم على المبدأ الكلي وهو ( إن جميع الطرق لاكتساب المال التي لا تحصل فيها المنفعة للفرد إلا بخسارة فرد غيره ، غير مشروعة .. وإن الطرق التي يتبادل فيها الأفراد المنفعة فيما بينهم بالعدل والتراضي مشروعة .. هذا المبدأ يبينه قوله تعالى :
[سورة النساء آية 29]
لقد أشارت كلمة لا تأكلوا أموالكم ، ولم يقل الله عز وجل لا تأكلوا أموال غيركم ، لقد أشارت كلمة : [وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ] ، في الآية إلى حقيقة أساسية ، وهي ما ينبغي أن يكون لعيه المؤمنون من أخوة صادقة ، ومشاركة وجدانية حانية ، يجسدها شعور المؤمن الحق أن مال أخيه هو ماله ، من زاوية واحدة ، وهي وجوب الحفاظ عليه ، وصونه من التلف والضياع ، فلأن يمتنع عن أكله بالباطل من باب أولى ، وأن مال أخيه هو ماله ، من زاوية ثانية ، وهي أن المؤمن إذا أكل مال أخيه أضعفه ، وفي إضعافه إضعاف لذاته ، فهو حمل حليه ، فالمؤمن إذا أكل ما أخيه فكأنما أكل ماله ، لذلك ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((كل المسلم على المسلم حرام ، ماله ودمه وعرضه)) .
[رواه مسلم في البر والصلة برقم 4650، والترمذي برقم 1850، وأبو داود في الأدب برقم 4238 ، وابن ماجه في الفتن برقم 3923 ، وأحمد 7402]
هناك في الدين حقائق ، يجب أن تُعلم بالضرورة وهي فرض عين على كل مسلم ، ذكراً كان أو أنثى ، بصرف النظر عن اختصاصه العلمي ، وعمله المهني ، ودوره الاجتماعي ، وحاله النفسي ، فإن لم يعلمها شقي ، وهلك في الدنيا والآخرة ، حقائق يجب أن تعلم بالضرورة .. أضرب على هذا مثلاً ، حينما يهبط إنسان من طائرة بالمظلة ، هناك حقائقُ كثيرة عن المظلة ، نوع قماشها ، مساحته ، شكله ، لونه ، نوع حبالها ، أطوالها ، أقطارها ، ألوانها ، وطريقة فتح المظلة ، فقد يجهل الذي يستخدم المظلة للهبوط من الطائرة نوع قماشها ، ومساحته وشكله ولونه ، ونوع حبالها وأطوالها وأقطارها وألوانها ويهبط سالماً .. أما إذا جهل طريقة فتح المظلة فلا بد من أن ينصل إلى الأرض ميتاً ، طريقة فتح المظلة يجب أن تُعلم بالضرورة لأي مظلي ، والحلال والحرام جزء من الدين ، وهو من أخطر أجزائه ، وهو الذي ينبغي أن يُعلم بالضرورة ، وحاجة المسلم إلى معرفة الحلال والحرام ، كحاجة المظلي إلى معرفة طريقة فتح المظلة .
إليكم هذه القصة ؛ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد فتح خيبر الحجاج بن علاط السلمي ، فأسلم ، وكان غنياً كثير المال فقال يا رسول الله ، إن مالي عند امرأتي أم شيبة بمكة ، ومتفرق في تجار مكة ، فأذن لي يا رسول الله أن آتي مكة لآخذ مالي ، قبل أن يعلموا بإسلامي ، عندئذ لا أقدر على أخذ شيء منه ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال الحجاج يا رسول الله ، لا بد من أن أقول ( أي أتقول ، أذكر ما هو خلاف الواقع ) حتى أحتال به لأخذ ماله ، فقال عليه الصلاة والسلام لرحمته وكماله : قل ما شئت ، قال الحجاج فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالاً من قريش يستمعون الأخبار ، ويسألون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر ، وهي من أقوى قرى الحجاز ، وهم يتجسسون الأخبار من الركبان ، وكان بينهم تراهن عظيم على مائة بعير حول من سيغلب ، أهل خيبر أم رسول الله ، فلما رأوا الحجاج ولم يكونوا علموا بإسلامه ، قالوا : الحجاج والله عنده الخبر اليقين ؛ يا حجاج ، إنه قد بلغنا أن القاطع ( يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قد سار إلى خيبر ، فقال الحجاج : عندي من الخبر ما يسركم ، فاجتمعوا عليه يقولون إيه يا حجاج ، قال الحجاج : فقلت لهم : لم يلق محمد وأصحابه قوماً يحسنون القتل مثلهم ، فهزم هزيمةً لم يُسمع بمثلها ، وأسر محمد وقالوا لا نقتله حتى نبعث فيه إلى مكة ، فنقتله بين أظهرهم ، بمن كان أصاب من رجالهم ، فانطلق هؤلاء الرجال فرحين أشد الفرح إلى أهل مكة ، فقيل لهم قد جاءكم الخبر ، هذا محمد ، إنما تنتظرون أن يُقدم به عليكم فيُقتل بين أظهركم ، ثم قال لهم الحجاج ، أعينوني على غرمائي أريد أن أقدم فأصيب من غنائم محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى هناك ، فجمعوا إلي مالي على أحسن ما يكون ، ففشا ذلك بمكة وأظهر المشركون الفرح والسرور ، وانكسر من كان بمكة من المسلمين ، وسمع بذلك العباس بن عبد المطلب ، فجعل لا يستطيع أن يقوم ، من شدة حزنه بهذا الخبر ، ثم بعث العباس إلى الحجاج غلاماً ليقول له يا حجاج ، الله أعلى وأجل من أن يكون الذي جئت به حقاً ، فقال الحجاج للغلام : اقرأ على أبي الفضل السلام ، وقل له : ليُخِلِ لي بعض بيوته لآتيه بالخبر على ما يسره ، واكتم عني ، فأقبل الغلام فقال : أبشر أبا الفضل فوثب العباس فرحاً كأن لم يمسه شيء ، وأخبره بذلك ، فأعتقه العباس رضي الله عنه لوجه الله : وقال لله علي عتق عشر رقاب على هذا الخبر السار ، فلما كان الظهر ، جاءه الحجاج ، فناشد العباس أن يكتم عنه ثلاثة أيام ، وقال إني أخشى الطلب ، فإذا مَضَتْ ثلاثٌ فأظهر أمرك ، وطالت على العباس تلك الأيام الثلاث ، عمد العباس رضي الله عنه إلى حُلة فلبسها ، وتخلق بخلوقٍ ( أي تطيب بنوع من الطيب ) وأخذ بيده قضيباً ، ثم أقبل يخطر حتى أتى مجالس قريش ، وهم يقولون إذا مر بهم لا يصيبك إلا الخير يا أبا الفضل ، هذا والله من التجلد بحر المصيبة ، قال : كلا والله الذي حلفتم به ، لم يصبني إلا خير بحمد الله ، أخبرني الحجاج أن خيبر فتحها الله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم ، وجرت فيها سهام الله وسهام رسوله ، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت ملكهم ، وإنما قال لهم ذلك ليخلص ماله منكم ، وإلا فهو ممن أسلم فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين ، على المشركين فقال المشركون : ألا يا عباد الله ، انفلت عدو الله ( يعنون حجاجاً ) أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن ، ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك .
تتصل هذه القصة من زاوية واحدة من زواياها بموضوع الخطبة ، ويستنبط منها ثلاث حقائق ؛ الحقيقة الأولى تتعلق بسنة من سنن الله في خلقه ، والثانية تتعلق بخلق عظيم من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والثالثة تتعلق بحكم فقهي في المال ، أترك لضيق الوقت للإخوة المستمعين الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة .
أيها الإخوة الكرام ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
الخطبة الثانية :
تطبيقاً لقول الله عز وجل :
إليكم هذا الموضوع العلمي :
أهمل الطب الحديث البحث عما في غذاء الإنسان من فوائد وقائية ، وعلاجية ، وغذائية ، لكن في عام ألف وتسعمائة وستة وثمانين ، ظهرت أول دراسة موضوعية عن أثر زيت الزيتون في تخفيض شحوم الدم ، ثم أظهرت دراسة أخرى تبعتها ، أن أمراض شرايين القلب واحتشاء العضلة القلبية ، كانت نادرةً بل شبه معدومة في جزيرة كريت ، بسب أن أهل هذه الجزيرة يأكلون زيت الزيتون بكميات كبيرة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ((كلوا الزيت وادهنوا به ، فإنه يخرج من شجرة مباركة)) .
[رواه الترمذي في الأطعمة برقم 1774، وابن ماجه في الأطعمة برقم 3311 ، وأحمد في مسند المكيين برقم 15475 ]
يقول العلماء : زيت الزيتون أسهل أنواع الزيوت هضماً ، فيه قيمة وقائية وعلاجية وغذائية ، والأطباء الآن أجمعوا على أن هذا الزيت له تأثير علاجية عجيب ، من هذا التأثير ، أنه يمكن أن نستخدمه ، لخفض الكولسترول ، الضار في الإنسان ، ورفع الكولسترول النافع ، ويستخدم أيضاً ، لخفض الضغط المرتفع ، ويُستخدم أيضاً لمرضى السكر ، ويستخدم لوقاية الشرايين والأوعية ، من تصلبها ، وفيه مادة تمنع تخثر الدم ، وتقي الشرايين من ترسب المواد الدهنية ، ومن التحليلات الدقيقة أن مائة غرام من زيت الزيتون فيه غرام بروتينات ، وأحد عشر غرام من الدسم ، وفيه البوتاسيوم والكالسيوم والمنغنيزيوم ، والفوسفور والحديد والنحاس والكبريت ، وفيه ألياف ، وهو غني بأهم الفيتامينات المتعلقة بتركيب الخلايا ونشاطها ، والمتعلقة بالتناسل وبالعظام ، وهو غذاء للدماغ جيد ، وإذا ء للأطفال ، وله تأثير في تفتيت الحصيات ؛ حصيات المرارة والمثاني ، وله أثر ملطفٌ للالتهابات الجلد ، ولبعض الأمراض الجلدية ، هذا الزيت له أثر طيب ونافع حتى في الاستعمال الخارجي والنبي عليه الصلاة والسلام ، لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يُوحى .
هناك أحاديث كثير عن الزيت ، اخترت لكم منها هذا الحديث : ((كلوا الزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة)) ، ويكاد بلدنا الطيب بفضل الله تعالى ، أن يصل إلى البلد الأول في العالم في زراعة شجرة الزيتون .
ختاماً لهذه الخطبة ، أضع بين أيديكم ، الحقيقة التالية ، يتفوق الإنسان في الدين ، لا بحجم ثقافته الدينية ، ولا بحجم عواطفه الجياشة نحو الإسلام والمسلمين ، ولا بحجم المظاهر الدينية التي يحيط بها نفسه ، ولكن يتفوق في الدين بمدى استقامته على منهج ربه ، قال تعالى :
[سورة الحجرات]
ويتفوق أيضاً ، بحجم عمله الصالح ، الذي يعود نفعه على المسلمين بخاصة ، وعلى الإنسانية بعامة ، قال تعالى :
[سورة الأنعام]
هذه الاستقامة وهذا العمل الصالح ، لا يُقبلان عند الله في الآخرة إلا إذا بُنيا على معرفة بالله صحيحة ومتينة ، قال تعالى :
[سورة يونس]
قيل لأحد العارفين ، من هو الولي ، أهو الذي يمشي على وطه الماء ، قال : لا ، قالوا أهو الذي يطير في الهواء ، قال : لا ، قال : الولي كل الولي ، الذي تجده عند الحرام والحلال " .
أن يجدك حيث أمرك ، وأن يفتقدك حيث نهاك ، وقد لفت نظري أيها الإخوة ، كلمة قالها السيد الرئيس في الاتحاد الدولي للعمال العرب في عام واحد وثمانين ، قال : ( إن القريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القريب بعمله ، بخلقه ، بقيمه ، بجهاده ) ، هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الدعاء :
اللهم ارزقنا طيباً ، واستعملنا صالحاً ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك .
اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب ، فاجعله فراغاً لنا فيما تحب .
اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونُبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء .
اللهم أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين .
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى ، اللهم ألف بينهم ، ووحد كلمتهم ، واجمعهم على الحق والخير والهدى .
اللهم انصر المسلمين في كل مكان ، انصرهم على أعدائك أعداء الحق والخير والسلام .
والحمد لله رب العالمين .
*****